المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كَانَ معناها معروفاً، فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً، وهي المتشابه كَانَ ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب، وأيضاً فإن الله قَالَ: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ))[آل عمران:7] وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين] إهـ.
الشرح:
إذا قال الإمام ابن أبي العز رَحِمَهُ اللهُ: (وقول الأصحاب)، فإنه يعني بالأصحاب الأحناف، لأنه حنفي المذهب، فهو يقول: إن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: إن الراجح في مذهب أبي حنيفة والمختار عندهم: أن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: (الم، حم، كهيعص، المص، ق، ن) إِلَى آخرها، جمعها بعض العلماء في عبارة (نص حكيم له سر قاطع) فهي النون والصاد والحاء والكاف والياء والميم والقاف والألف والطاء والعين واللام والهاء والسين والراء، هذه الحروف المقطعة التي وردت في أوائل السور، وقول الأصحاب هذا هو مما قيل في معاني الحروف المقطعة، فـهناك قولان في معنى الحروف المقطعة.
  1. القول الأول : أنها من المتشابه

    فريق يقولون عن الحروف المقطعة - الله أعلم- بمراده، وهذا يروى كما ذكر المصنف، وكما هو في الدر المنثور، عن عبد الله بن عباس وعلى ذلك عدد من العلماء، كما في تفسير الجلالين فنجده دائماً عند الحرف المقطعة يقول: الله أعلم بمراده، ولا يتكلم فيه أبداً، إنما يكل علمه إِلَى الله. فيقولون: إن المتشابه الذي استأثر الله تَعَالَى بعلمه ولا يعلمه أحد، هو هذه الحروف.
  2. القول الثاني: أن لهذه الحروف معنى

    والفريق الآخر وهم أكثر العلماء يقولون: إن لهذه الحروف معنى، وهذا المعنى اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، ولم يجمعوا فيه عَلَى قول كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ، ولو ورد ذلك لألزم به الباقون.
    إن هذه أسماء للسور، فـ"الم" كأنه اسم للسورة، ومنهم من قَالَ: إن هذه أسماء للقرآن، ومنهم من قَالَ: إنها فواتح يفتتح الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بها القرآن، ومنهم من قَالَ: هي حروف من حروف المعجم ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أول القرآن، أو في أول الآيات، لينبه إِلَى أن القُرْآن مركب من هذه الحروف التي هي حروف المعجم، ومنهم من قَالَ: إن هذه أسماء من أسماء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    حتى ورد عن بعض السلف أنه قَالَ: آلم، اسم الله الأعظم، وورد عن بعضهم الألف إشارة إِلَى الله، واللام إِلَى اللطيف، والميم إِلَى المجيد، وأمثال ذلك، والأقوال في المسألة اجتهادية، وللإنسان أن يختار ويرجح القول الذي يراه، لكن لو تأملنا الحكمة التي ذكرها العلماء.
    هذه الحكمة تدلنا عَلَى المعنى الصحيح -إن شاء الله- كما ذكرها الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- واختارها وهي أنها بيان إعجاز القرآن، وبعضهم قَالَ: المقصود منها إثارة الْمُشْرِكِينَ؛ لأنهم يسمعون كلمات غريبة جديدة عَلَى أسماعهم فيصغون ويلقون السمع للقرآن، لكن مما هو معلوم أن في القُرْآن كثير من هذه الحروف المقطعة، كما في البقرة، وآل عمران، وغيرها من السور التي نزلت في المدينة، وهذا مما يضعف هذا القول كقولٍ من الأقوال.
  3. القول الراجح في ذكر الحروف المقطعة

    والقول الذي يختار ويرجح، والذي تظهر حكمته وفائدته جلية إن شاء الله، هو أن نقول: إن هذه الحروف ذكرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أوائل السور، وكأنه يقول: إن القُرْآن يتركب من هذه الحروف، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله -لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله- فآمنوا به، فإنكم لن تأتوا بمثله أبداً، ويرجح هذا القول: أن هذه السور التي وردت فيها هذه الحروف المقطعة عددها تسع وعشرون سورة، وأنها تشتمل عَلَى ما يدل عَلَى أن القُرْآن من عند الله، وينفي أقوال الْمُشْرِكِينَ بأنه مفترى، وتأتي فيها الإشارة إِلَى هذا القرآن، عقب ذكر هذه الحروف المقطعة، وهذا مما هو معلوم عند الجميع.
    مثلاً: ((الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)) [البقرة:1, 2] ((آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ)) [آل عمران:1-3]. ((يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ))[يّـس:1، 2] ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) [غافر:1، 2] ((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ)) [الدخان:1، 2] ((ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ))[صّ:1] ((ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) [قّ:1].
    فلو تأملنا لوجدنا أن هذا المعنى ظاهر، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي بما يدل في السورة -ولكن غالبها يأتي عقب هذه الحروف المقطعة- أن هذا القُرْآن من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الحروف هي من كلام البشر العربي عموماً، فكلام أبلغ البلغاء وأقلهم بلاغة يتركب في هذه الحروف، وهذا القُرْآن أنزله الله تَعَالَى مركباً من هذه الحروف التي تقولونها، ومع ذلك فلن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، ولو اجتمع الجن والإنس عَلَى ذلك، ولو كَانَ بعضهم لبعض ظهيراً، أو استعانوا أيضاً بمن شاءوا ممن عداهم لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل ولا بعشر سور، بل ولا بسورة من مثله.
    فهذا دليل عَلَى أن هذه الحروف لها حكمة واضحة، وأن هذا يعين عَلَى فهم معناها، بمعنى أنه لا يشترط أن نقول: النون لها معنى خاص، أو القاف لها معنى خاص، الحكمة من ذكرها تشير أو تدل عَلَى المراد، وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يصدر كتابه بهذه الحروف للدلالة عَلَى ما قلنا: إن القُرْآن يتركب منها، ومن يريد أن يكذب ويقول: أن هذا ليس من عند الله، كما قيل: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ)) [الشعراء:210] وقيل: ((إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ))[النحل:103] وقيل: ((أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا)) [الفرقان:5] وأمثال ذلك فهذه هي حروف القُرْآن التي تقولونها وتستخدمونها، فهل تستطيعون أن تأتوا بمثله؟!
  4. الرجل البهائي ورقم "19"

    ومن المناسب أن نذكر لكم الشبهة التي خرجت مؤخراً، والتي اعتبرها النَّاس فتحاً عظيماً، وخطب بها خطباء الجمع، وكتبت في الجرائد والمجلات والكتب، وقيل: هذا من الإعجاز، وهذا من آيات القرآن، وهذا دليل عَلَى أن العصر الحديث، وأن الكمبيوتر يصحح أن القُرْآن من عند الله.
    فإن قوماً افتروا فريةً وهي أن الحروف الموجودة في أوائل سور القُرْآن مركبة كلها عَلَى رقم (19) كما يزعمون، إما (19) أو أي مضاعف من مضاعفاته، وأمثال ذلك مما ذهب إليه بعض المفترين، ونحب أن نوضح أن الطائفة البهائية الخبيثة المجرمة التي نشأت في بلاد إيران في القرن الميلادي الماضي أو قبله، هي التي تركب عقائدها عَلَى الرقم (19) وجعلوا السنة (19) شهراً، والشهر (19) يوماً وهكذا، فركبوا عَلَى الرقم (19) معاني وعقائد وديناً كله يدور حول هذا الرقم.
    وكما هو معلوم أن الباطنية هي التي تؤول كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ بالتأويل الباطني، الذي لا يقبله عقل ولا يدل عليه نقل، وهذه البهائية ما هي إلا فرقة حديثة من فرق الباطنية التي خرجت في نفس المنبت الذي هو منبت الرفض.
    وأصلهم هو أصل التكذيب بكتاب الله، والتحريف لكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي كتب هذا وأشاعه رجل مصري، لكنه بهائي وهو الذي جَاءَ بهذه الفرية، وقَالَ: إن أول آية من القُرْآن هي ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) تسعة عشر حرفاً، والقرآن كله يتركب عَلَى هذا الأساس، وهذا من أول ما يدل عَلَى كذبه أن نفس ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) أكثر من تسعة عشر حرفاً.
    وسبب خطئه أنه وضعها في الكمبيوتر، والكمبيوتر يسجل بحسب الحروف كما هي مكتوبة، ولا يحسب الحرف المكرر، ولا يحسب المد في مثل "الرحمان" فلذلك نجد أن هذا كلام إفك، وبهتان، وافتراء
    ، المقصود منه تصحيح مذهب هذه الفرقة الضالة، وليس موضوعنا الآن بيان هذه الفرقة، ولا ما يتعلق بها، ولا حتى الاستطراد في شرح الحروف المقطعة.
    لكن المقصود أنه يجب علينا قبل أن نفرح بأي نتيجة، أو نظن أنها تخدم ديننا، أو تهدف إليه، أن ندرك أن وراء هذا خططاً، فهذا الرجل أول ما أظهر هذا الكلام، اشتهر عند الْمُسْلِمِينَ وكتبوا عنه ونشروا اسمه، وعرف حتى أصبح كأنه من أعظم المكتشفين ومن أعظم العلماء الذين يؤخذ كلامهم في أي موضوع من موضوعات الدين، ومن جملة من أشهره أناس طيبون في الخطب عَلَى المنابر، والمجلات والجرائد الإسلامية.
    وبعد سنوات أخذ يخرج السموم وينفثها ويقول: إن السنة لا حاجة لها، وحسبنا القرآن، هذا بعد أن اشتهر، فكيف يكون موقفنا بعد ذلك عندما نكذبه ونتهمه ونحن الذين رفعناه وأشهرناه؟! كَانَ الذي ينبغي علينا أن نقوم به أن نعرف دين الرجل وعلمه، فهذا الرجل يعيش في أمريكا وأتباعه في أمريكا كثير؛ لأن الجهل بالإسلام فيها كبير، فبحكم أنها بلد الصناعة والتكنولوجيا أدخلت الكمبيوتر في كل شيء.
    فجاء هذا الرجل فأدخل السنة في الكمبيوتر فلم يستوعبها لكثرة رواياتها واختلطت عليه، فحينئذ ترك السنة لأن الكمبيوتر لم يتقبلها ...؟! فالواجب علينا أن نعي ما يخطط أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، فهم لن يتركوا معاداة هذا الدين أبداً، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ))[الصف:8] فهم يحاولون ويحاولون ((وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا))[البقرة:217] هذا هو عملهم، وهذا ما أحببنا أن ننبه إليه، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا جنوداً للدفاع عن دينه!!
    .
    ثُمَّ قال المصنف: [مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كَانَ معناها معروفاً] إن كَانَ هذا المعنى عَلَى احتمال وافتراض أن ما قالوه من المعاني حقيقية، وأن معانيها معروفة [فقد عرف معنى المتشابه]، إذاً ليس في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ شيء، لا تعرف جميع الأمة معناه [وإن لم يكن معروفاً] عَلَى فرض أن غيرها قد عرف، فإذاً ما سواها هو المعلوم، فتكون هي المتشابه، وهذا هو المطلوب، أن آيات الصفات والآيات الأخرى ليست من المتشابه، فيبقى عَلَى هذا القول أن المتشابه رغم أنه ليس الراجح هو هذه الحروف المقطعة، وما عداها من القُرْآن ليس من المتشابه، إذاً القُرْآن ليس فيه حكم إلا وتعرفه الأمة، علمه من علمه منها وجهله من جهله، وهذا وجه في الجواب عن قول الأصحاب (إن الحروف المقطعة هي المتشابه) أي أنه قد تكلم في معناها كثير من النَّاس والوجه الثاني هو قوله: [فإن الله قَالَ: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7] وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين] ا هـ.
    هنا رجع المُصنِّف إِلَى مسألة اصطلاحية فنية، وهي أن الله تَعَالَى يقول :((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) وهذه الحروف عند البعض -سواءً صح أنها عند الجمهور، أو ليست عند الجمهور- ليست آيات، وإنما هي حروف، فلا تعد ولا تحسب آيات، وكما هو معلوم أن هناك اختلافاً بين العلماء رحمهم الله تَعَالَى في عدد آيات القرآن، وهذا لا يؤثر في ثبوت القرآن، وإنما هي أمور اصطلاحية فنية نقلية رآها العلماء، وليست مبنية عَلَى التوقيف، وهذا وجه من الأوجه التي قد تنفع في بيان أنه لا يوجد في القُرْآن شيء إلا وهو معلوم عند الأمة عامة، وليس فيه شيء لا يعلمه أحد من هذه الأمة والله أعلم.